فصل: قال مجد الدين الفيروزابادي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

.قال السمين:

{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}.
قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي} يجوز أَنْ ينتصبَ بـ {رحيم}، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تقييدُ رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رَحِم في هذا اليوم فرحمتُه في غيرِه أَوْلَى وأحْرَى، وأن ينتصِبَ ب اذكر مقدرةً، وراعى معنى {كل} فأنَّثَ الضمائر في قوله: {تجادل} إلى آخره، ومثلُه:
جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ** فتركْنَ كلَّ

إلا أنَّه زاد في البيت الجمعَ على المعنى، وقد تقدَّم ذلك أولَ هذا الموضوع، وقوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حَمَلَ على المعنى فلذلك جَمَعَ.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ}.
قوله تعالى: {والخوف} العامَّةُ على جَرِّ {الخوف} نسقًا على {الرجوع}، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه، وفيه أوجه، أحدها: أن يُعطف على {لباس}. الثاني: أن يُعْطَفَ على موضعِ {الجوع}؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ. التقدير: أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ، قاله أبو البقاء، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه. الثالث: أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي.
الرابع: أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ، أي: ولباس الخوف، ثم حُذِف وأقيم المضافُ إليه مُقامَه قاله الزمخشري.
ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري، فإنه قال: فإن قُلْتَ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت: الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها، فيقولون، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ، وإذاقة العذابُ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ، فكأنه قيل: فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ، ولهم في هذا طريقان، أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا، ونحوُه قول كثيِّر:
غَمْرُ الرِّداء إذا تَبَسَّم ضاحكًا ** غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ

استعار الرداء للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداء لِما يُلْقى عليه، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال، لا وصفُ الرداء، نظرًا إلى المستعار له، والثاني: أن ينظروا فيه المستعار كقوله:
يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو ** رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر

ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني ** ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ

أراد بردائِه سيفَه ثم قال: «فاعتجِرْ منه بِشَطْر» فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف، ولقال كثِّير: ضافي الرداء إذا تبسَّم. انتهى، وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة.
وقال ابن عطية: لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس، وهذا كقول الأعشى:
إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها ** تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا

ومثلُه قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187]، ومثلُه قولُ الشاعر:
وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ ** لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما

كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه.
وقوله: {فأذاقهم} نظيرُ قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49]، ونظيرُ قولِ الشاعر:
دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ

وفي قراءةِ عبد الله: {فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ}، وفي مصحف أُبَيّ: {لباسَ الخوفِ والجوعِ}.
وقوله: {بِأَنْعُمِ الله} أتى بجمعِ القلَّةِ، ولم يَقُلْ بِنِعَمِ الله جمعَ كثرةٍ تنبيهًا بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى.
وأنْعُم فيها قولان، أحدُهما: أنها جمعُ نِعْمةٍ نحو: شِدَّة: أَشُدّ. قال الزمخشري: جمعُ نِعمة على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع، وقال قطرب: هي جمع نُعْم، والنُّعْمُ: النَّعيم، يقال: هذه أيامُ طُعْم ونُعْم، وفي الحديث: نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى: «إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا».
قوله: {بِمَا كَانُواْ} يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً، أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ، أي: بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه، والواو في {يَصْنعون} عائدةٌ على أهل المعذَّب. قيل: قرية، وهي نظيرةُ قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4]. بعد قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}. اهـ.

.قال مجد الدين الفيروزابادي:

بصيرة في لبس:
اللُبْس- بالضمّ- مصدر قولك: لبِست الثوب أَلْبَسه.
ولبِست امرأَة، أي تمتَّعت بها زمانًا؛ ولبِستها عُمُرى، أي كانت معى شبابى كلّه، قال النابغة الجعدىّ رضى الله عنه:
لَبِسْتُ أناسا فأَفنيتهم ** وأَفنيت بعد أُناسٍ أُناسا

ثلاثة أَهلين أَفنيتهم ** وكان الإِله هو المستآسا

وقال عمرو بن أَحمر الباهليّ:
لبِست أَبِى حتى تَبَلَّيْتُ عُمْرَه ** وبَلَّيْت أَعمامى وبَلَّيت خاليا

واللباس والمَلْبس واللِبْس- بالكسر- ما يُلبس.
ولباس الرَّجل: امرأَته.
وزوجها لِباسها، قال النابغة الجعدى رضى الله عنه:
إِذا ما الضجيع ثَنَى جيدها ** تداعى عليه وكانت لباسا

وروى أَبو عمرو ثنى عطفها تثنّت عليه.
قال الله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} أي بمنزلة اللباس.
وقال ابن عرفة: اللباس من الملابسة أي الاختلاط والاجتماع.
وقوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى}، قيل: هو الحياء والعمل الصالح، وقيل: الغليظ الخشن القصير.
قال السُدّىّ: هو الإِيمان، وقيل: هو ستر العورة، وهو لباس المتقين.
وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا} أي يستر الناس بظلمته.
وقوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} أي جاعوا حتى أَكلوا الوَبَر بالدم وهو العِلْهِز، وبلغ بهم الجوعُ الحالَ التي لا غاية بعدها، فضُرب اللباس لما نالهم من ذلك مثلا لاشتماله على لابسه.
واللَّبوس: ما يلبس، قال بَيْهس:
إِلبس لكلّ حالة لَبوسها ** إِمَّا نعيمها وإِمَّا بوسها

وقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} يعني الدرع، سمِّيت لبوسا لانها تُلْبس، كالرّكوب ما يُركب.
وَلَبَست عليك الأَمر أَلْبِسه- كضربته أَضربه- أي خلطته قال الله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} أي شبَّهنا عليهم وأَضللناهم كما ضلَّوا.
قال ابن عرفة: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، أي لا تخلطوه به.
وقوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا} أي يخلط أَمركم خلط اضطراب لا خلط اتِّفاق.
وقوله جل ذكره: {وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي لم يخلطوه بشرك.
قال العجاج.
ويفصلون الَّلبْسَ بعد الَّبْسِ ** من الأُمور الرُبْس بعد الرُبْس

واللبس أَيضا: اختلاط الكلام.
وفى الامر لُبسة- بالضم- أي شبهة وليس بواضح.
والتلبيس التخليط، قال الأَسْعر الجعفىّ:
وكتيبة لَبَّسْتُها بكتيبة ** فيها السَنَوَّر والمغافر والقنا

وتلبَّس بالأَمر وبالثواب، قال:
تلبَّس حبَّها بدمى ولحمى ** تلبُّس عَصْبة بفروع ضال

وقال آخر:
تلبَّسْ لباس الرضا بالقضاء ** وخلِّ الأُمور لمن يملكْ

تُقدِّر أَنت وجارى القضا ** مما تقدّره يضحكُ

وقوله تعالى جلّ شأنه: {أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} فيه تنبيه على أَن جلَّ المقصود من اللباس ستر العورة، وما زاد فتحسّن وتزيّن، إلاَّ ما كان لدفع حَرّ وبرد، قال الشاعر:
إِن العيون رمتك إِذ فاجأتها ** وعليك من شُهَر الثياب لباس

أَمَّا الطعام فكُلْ لنفسك ما اشتهت ** واجعل ثيابك ما اشتهاه النّاس

وفى بعض الآثار: من ترك اللباس وهو يقدر عليه خيَّره الله يوم القيامة بين حُلَل الإِيمان يلبس أَيّها شاء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)}.
غدًا كلٌّ مشغولٌ بنْفسه، ليس له فراغ إلى غيره، وعزيزٌ لا يشتغل بنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: «من كان بحالٍ لقي الله بها» إنما يكون الفارغ غدًا من كان اليوم فارغًا، ويجادل عن نفسه من كان له اليوم اهتمامٌ بنفسه، والمؤمن لا نَفْسَ له؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ} [التوبة: 111]. اشتراها الحقُّ منهم، وأودعها عندهم، فليس لهم فيها حق، وإنما يراعون فيها أمرَ الحق.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ}.
فراغ القلبِ من الاشغال نعمة عظيمة، فإذا كفر عبدٌ بهذه النعمة بأَن فتح على نَفْسِه بابَ الهوى، وانجرف ففي فساد الشهوة، شَوَّشَ الله عليه قلبه، وسَلَبَه ما كان يَجِدُه من صفاء وقته؛ لأنَّ طوارقَ النفسِ تُوجِبْ غروبَ شوارقِ القلب، وفي الخبر: «إذا أقبل الليلُ من ها هنا أدبر النهارُ من ها هنا» وكذلك القلبُ إذا انقطع عنه معهودُ ما كان الحقُّ أتاحه له أصابه عطَشٌ شديد ولهبٌ عظيم.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)}.
كما جاءهم الرسولُ جهرًا فإنه تتأدَّى إليهم منْ قِبَل خواطرهم إشاراتٌ تترى، فمَنْ لم يستجِبْ لتلك الإشارات بالوفاق والإعتاق أخذه العذابُ من حيث لا يشعر. اهـ.

.بحوث ذكرها صاحب الأمثل:

قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ}.
1- أهو مثال أم حدث تاريخي؟
لقد عبرت الآيات أعلاه عند حديثها عن تلك المنطقة العامرة بكثرة النعم، والتي أصاب أهلها بلاء الجوع والخوف نتيجة كفرهم بأنعم الله، عبرت عن ذلك بكلمة {مثلا} وبذات الوقت فإن الآية استخدمت الأفعال بصيغة الماضي، مما يشير إلى وقوع ما حدث فعلا في زمن ماض، وهنا حصل اختلاف بين المفسرين في الهدف من البيان القرآني، فقسم قد احتمل أن الهدف هو ضرب مثال عام، وذهب القسم الثاني إلى أنه لبيان واقعة تأريخية معينة.
وتطرق مؤيدو الإحتمال الثاني إلى تحديد المنطقة التي حدثت فيها هذه الواقعة. فذهب بعضهم أنها أرض مكة، ولعل {يأتيها رزقها رغدا من كل مكان} تدعو إلى تقوية هذا الاحتمال، لأنه دليل على أن هذه المنطقة مجدبة، وما تحتاج إليه يأتيها من خارجها، وما جاء في الآية (57) من سورة القصص {يجبى إليه ثمرات كل شيء} يعضد هذا المعنى، خصوصا وأن المفسرين قد قطعوا بأنها إشارة إلى مكة المكرمة.
ويرد هذا الزعم بعدم معرفة حادثة كهذه في تأريخ مكة على ما للحادثة من وضوح، فغير معروف عن مكة أنها عاشت أياما رغيدة ومن ثم جاءها القحط والجوع!
وقال بعض آخر: حدثت هذه القصة لجمع من بني إسرائيل في منطقة ما، وأنهم أبتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم الله.
وما يؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «إن قوما في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها وهو قول الله: {ضرب الله مثلا}».
ورويت روايات أخرى قريبة من هذا المضمون عن الإمام الصادق عليه السلام وتفسير علي بن إبراهيم مما لا يمكن الإعتماد الكامل على أسانيدها، وإلا لكانت المسألة واضحة.
وثمة احتمال آخر وهو أن الآية تشير إلى قوم سبأ الذين عاشوا في اليمن، وقد ذكر القرآن الكريم قصتهم في الآيات (15- 19) من سورة سبأ، وكيف أنهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام، حتى أصابهم الغرور والطغيان والإستكبار وكفران النعم الإلهية، فأهلكهم الله وشتت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين.
وجملة: {يأتيها رزقها رغدا من كل مكان} ليست دليلا قاطعا على أنها لم تكن عامرة بذاتها، لأنه من الممكن أن يقصد بـ {كل مكان} أطرافها وضواحيها، وكما هو معروف فإن المحاصيل الزراعية لإقليم كبير تنتقل إلى المدينة أو القرية المركزية في تلك المنطقة.
وينبغي التذكير مرة أخرى بعدم وجود المانع من شمولية إشارة الآية إلى كل ما ذكر من احتمالات.
وعلى أية حال، فليس ثمة مشكلة مهمة في تفسير هذه الآية وذلك لكثرة المناطق التي أصابها مثل هذه العاقبة عبر التاريخ.
وإذا كان عدم الإطمئنان الكافي في تعيين محل المنطقة قد دفع بعض المفسرين إلى اعتبار الموضوع مثالا عاما مجردا وليس منطقة معينة، فظاهر الآيات مورد البحث لا يناسب ذلك التفسير، بل يشير إلى وجود منطقة معينة وحادثة تأريخية.
2- الرابطة ما بين الأمن والرزق الكثير:
ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرة المباركة:
الخاصية الأولى: الأمن.
الخاصية الثانية: الإطمئنان في إدامة الحياة.
الخاصية الثالثة: جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إليها.
وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطا عليا وحسب تسلسلها، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول، فلو فقد الأمن لما اطمأن الإنسان على إدامة حياته في مكانه المعين، وإذا فقد الإثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإنتاج وتحسين الوضع الإقتصادي هناك.
فالآية تقدم درسا عمليا لمن يرغب في بلاد عامرة وحرة ومستقلة، فقبل كل شيء لابد من توفير حالة الأمن، ومن ثم بعث الإطمئنان في قلوب الناس بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الإقتصاد.
فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إلى درجة تكامل حياتها المادية فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب ماديا ومعنويا تحتاج المجتمعات إلى نعمة الإيمان والتوحيد، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم: {ولقد جاءهم رسول منهم}.
3- {لباس الجوع والخوف} ذكرت الآيات في بيان عاقبة الكافرين بنعم الله، قائلة: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} فمن جهة: شبهت الجوع والخوف باللباس، ومن جهة أخرى: عبرت بـ {أذاقها} بدلا من ألبسها، وحمل هذا التفاوت في التعبير المفسرين إلى التوقف والتأمل في الآية فالتعبير يحمل بين طياته إشارة لطيفة، فمثلا: قال ابن الراوندي لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي: لا بأس ولا لباس يا أيها النسناس، هب أنك تشك أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا!!.
وعلى أية حال، فالتعبير إشارة إلى أن القحط والخوف كانا من الشدة وكأنهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات، وأبدانهم في تماس معه، ومن جهة أخرى فقد وصلت حالة لمسهم للخوف والقحط كأنهم يتذوقونه بألسنتهم.
وهو تعبير عن أشد حالات الخوف ومنتهى حالات الفقر والذي يمكن أن يصيب جميع وجود الإنسان. فكما أن نعمة الأمن والرفاه قد غطت كامل وجودهم في البداية، فها هم وقد حال بهم الأمر لأن يحل الفقر والخوف محلها في آخر مطافهم نتيجة لكفرانهم بنعم الله سبحانه.
4- أثر كفران النعمة في تضييع المواهب الإلهية:
رأينا في الرواية المتقدمة كيف راح أولئك المرفهون بتطهير أجسادهم بواسطة المواد الغذائية بعد أن تسلطت عليهم الغفلة وساورهم الغرور، حتى ابتلاهم الله بالقحط والخوف.
وعرض الحادثة ما هو إلا تنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإلهية، على أن الإسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.
وهو تنبيه أيضا للذين يرمون نصف غذائهم {الزائد عن الحاجة} في أكياس الأوساخ دائما.
وهو تنبيه كذلك لأولئك الذين يهيئون غذاء يكفي لعشرين شخصا، وليس لهم من الضيوف إلا أربعة، ولا يصل الزائد منه إلى بطون الجياع من الناس.
وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص، ويملؤون مخازنهم انتظارا لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباء من غير أن يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.
نعم، فلا يخلو أي عمل مما ذكر من عقوبة إلهية، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم.
وتتضح أهمية المسألة إذا علمنا أن المواد الغذائية على سطح الكرة الأرضية محددة بنسبة، فأي إفراط في أي نوع من المواد يؤدي إلى حرمان نسبة من البشر من تلك المواد. اهـ.